الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال ابن عطية في الآيات السابقة: {يا أيُّها النّبِيُّ لِم تُحرِّمُ ما أحلّ الله لك تبْتغِي مرْضات أزْواجِك}روي في الحديث عن زيد بن أسلم والشعبي وغيرهما ما معناه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أهدى المقوقس مارية القبطية اتخذها سرية، فلما كان في بعض الأيام وهو يوم حفصة بنت عمر، وقيل بل كان في يوم عائشة، جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت حفصة فوجدها قد مرت إلى زيارة أبيها، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في جاريته فقال معها، فجاءت حفصة فوجدتهما فأقامت خارج البيت حتى أخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مارية وذهبت، فدخلت حفصة غيرى متغيرة اللون فقالت: يا رسول الله أما كان في نسائك أهون عليك مني؟ أفي بيتي وعلى فراشي؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم مترضيا لها: «أيرضيك أن أحرمها» قالت: نعم، فقال: «إني قد حرمتها». قال ابن عباس، وقال مع ذلك «والله لا أطؤها أبدا»، ثم قال لها: «لا تخبري بهذا أحدا»، فمن قال إن ذلك كان في يوم عائشة، قال استكتمها خوفا من غضب عائشة وحسن عشرتها، ومن قال: كان في يوم حفصة، قال استكتمتها لنفس الأمر، ثم إن حفصة رضي الله عنها قرعت الجدار الذي بينها وبين عائشة، وأخبرتها لتسرها بالأمر، ولم ترض إفشاءه إليها حرجا واستكتمتها، فأوحى الله بذلك إلى نبيه، ونزلت الآية. وروي عن عكرمة أن هذا نزل بسبب شريك التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم، وذكر النقاش نحوه عن ابن عباس، وروى عبد بن عمير عن عائشة أن هذا التحريم المذكور في الآية، إنما هو بسبب شراب العسل الذي شربه صلى الله عليه وسلم عند زينب بنت جحش، فتمالأت عائشة وحفصة وسودة على أن تقول له: من دنا منها، أكلت مغافير، والمغافير صمغ العرفط، وهو حلو ثقيل الريح، ففعلن ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ولكني شربت عسلا»، فقلن: جرست نحله العرفط، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا أشربه أبدا» وكان يكره أن توجد منه رائحة ثقيلة، فدخل بعد ذلك على زينب، فقالت: ألا نسقيك من ذلك العسل؟ قال: «لا حاجة لي به»، قالت عائشة: تقول سودة حين بلغها امتناعه والله لقد حرمتاه. قلت لها: اسكتي.قال القاضي أبو محمد: والقول الأول إن الآية نزلت بسبب مارية أصح وأوضح، وعليه تفقه الناس في الآية، ومتى حرم رجل مالا أو جارية دون أن يعتق ويشترط عتقا أو نحو ذلك، فليس تحريمه بشيء، واختلف العلماء إذ حرم زوجته بأن يقول لها: أنت علي حرام، والحلال علي حرام، ولا يستثني زوجته، فقال مالك رحمه الله: هي ثلاث في المدخول بها، وينوي في غير المدخول بها فهو ما أراد من الواحدة أو الاثنين أو الثلاث، وقال عبد الملك بن الماجشون: هي ثلاث في الوجهين ولا ينوي في شيء.وقال أبو المصعب وغيره وروى ابن خويز منداد عن مالك: أنها واحدة بائنة في المدخول بها وغير المدخول بها، وروي عن عبد العزيز بن الماجشون، أنه كان يحملها على واحدة رجعية، وقال غير واحد من أهل العلم: التحريم لا شيء، وإنما عاتب الله رسوله صلى الله عليه وسلم فيه ودله على تحلة اليمين المبينة في المائدة لقوله: «قد حرمتها والله لا أطؤها أبدا»، وقال مسروق: ما أبالي أحرمتها أو قصعة من ثريد. وكذلك قال الشعبي ليس التحريم بشيء، قال تعالى: {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام} [النحل: 116] وقال: {لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم} [المائدة: 87]، ومحرم زوجته مسم حراما ما جعله حلالا، ومحرم ما أحل الله له، وقال أبو بكر الصديق وعمر الفاروق وابن مسعود وابن عباس وعائشة وابن المسيب وعطاء وطاوس وسليمان بن يسار وابن جبير وقتادة وأبو ثور والأوزاعي والحسن وجماعة: (التحريم) يلزم فيه تكفير يمين بالله، والتحلة إنما هي من جهة التحريم ولم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والله لا أطؤها»، وقال أبو قلابة: التحريم ظهار، وقال أبو حنيفة وسفيان والكوفيون: هو ما أراد من الطلاق، فإن لم يرد بذلك طلاقا فهو لا شيء. وقال: هو ما أراد من الطلاق، فإن لم يرد طلاقا فهو يمين، فدعا الله تعالى نبيه باسم النبوة الذي هو دال على شرف منزلته وعلى فضيلته التي خصه بها دون البشر، وقرره كالمعاتب على سبب تحريمه على نفسه ما أحل الله له، وقوله: {تبتغي} جملة في موضع الحال من الضمير الذي في {تحرم}، و(المرضاة) مصدر كالرضى، ثم غفر له تعالى ما عاتبه فيه ورحمه، وقوله: {قد فرض الله} أي بين وأثبت، وقال قوم من أهل العلم: هذه إشارة إلى تكفير التحريم، وقال آخرون: هي إشارة إلى تكفير اليمين المقترنة بالتحريم. والتحلة: مصدر ووزنها تفعلة وأدغم لاجتماع المثلين، وأحال في هذه الآية على الآية التي فسر فيها الإطعام في كفارة اليمين بالله والمولى الموالي الناصر العاضد، وقوله تعالى: {وإذ أسر النبي} الآية معناه اذكر يا محمد ذلك، على وجه التأنيب والعتب لهن، وقال الجمهور الحديث هو قوله في أمر مارية، وقال آخرون: بل هو قوله: «إنما شربت عسلا»، وبعض أزواجه هي حفصة، و{نبأت} معناه، أخبرت، وهذه قراءة الجمهور، وقرأ طلحة: {أنبأت} وكان إخبارها لعائشة، وهذا ونحوه هو التظاهر الذي عوتبتا فيه، وقال ميمون بن مهران: الحديث الذي أسر إلى حفصة، أنه قال لها:«وأبشري بأن أبا بكر وعمر يملكان أمر أمتي بعدي خلافة»، وتعدت (نبأ) في هذه الآية مرة إلى مفعولين ومرة إلى مفعول واحد، لأن ذلك يجوز في أنبأ ونبأ إذا كان دخولها على غير الابتداء والخبر، فمتى دخلت على الجملة تعدت إلى ثلاثة مفاعيل، ولا يجوز الاقتصار. وقوله تعالى: {وأظهره الله عليه} أي أطلعه، وقرأ الكسائي وحده وأبو عبد الرحمن وطلحة وأبو عمرو بخلاف والحسن وقتادة: {عرف} بتخفيف الراء، وقرأ الباقون وجمهور الناس: {عرّف} بشدها، والمعنى في اللفظة مع التخفيف جازى بالعتب واللوم، كما تقول لإنسان يؤذيك: قد عرفت لك هذا ولأعرفن لك هذا بمعنى لأجازينك عليه، ونحوه في المعنى قوله تعالى: {أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم} [النساء: 63]، فعلم الله زعيم بمجازاتهم، وكذلك معرفة النبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى مع الشد في الراء علم به وأنب عليه، وقوله تعالى: {وأعرض عن بعض} أي تكرما وحياء وحسن عشرة، قال الحسن: ما استقصى كريم قط، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق حينئذ حفصة، ثم إن الله تعالى أمره بمراجعتها، وروي أنه عاتبها ولم يطلقها، فلما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة بالخبر، وأنها أفشته إلى عائشة، ظنت أن عائشة فضحتها، فقالت: من أنبأك هذا؟ على جهة التثبت، فلما أخبرها أن الله تعالى أخبره، سكتت وسلمت.{إِنْ تتُوبا إِلى الله فقدْ صغتْ قُلُوبُكُما}المخاطبة بقوله تعالى: {إن تتوبا} هي لحفصة وعائشة، وفي حديث البخاري وغيره عن ابن عباس قال: قلت لعمر بن الخطاب: من اللتان تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال حفصة وعائشة، وقوله تعالى: {صغت قلوبكما}، معناه مالت أي عن المعدلة والصواب، والصغا: الميل، ومنه صياغة الرجل وهم حواشيه الذين يميلون إليه، ومنه أصغى إليه بسمعه، وأصغى الإناء، وفي قراءة عبد الله بن مسعود {فقد زاغت قلوبكما}، والزيغ الميل وعرفه في خلاف الحق، قال مجاهد: كما نرى صغت شيئا هينا حتى سمعنا قراءة ابن مسعود: {زاغت}، وجمع القلوب من حيث الإنسان جمع ومن حيث لا لبس في اللفظ، وهذا نظير قول الشاعر حطام المجاشعي: الرجز:ومعنى الآية، إن تبتما فقد كان منكما ما ينبغي أن يتاب منه، وهذا الجواب الذي للشرط هو متقدم في المعنى، وإنما ترتب جوابا في اللفظ، {وإن تظاهرا} معناه: تتعاونا، وقرأ جمهور الناس والسبعة {تظاهرا} وأصله تتظاهرا، فأدغمت التاء في الظاء بعد البدل، وقرأ عكرمة مولى ابن عباس: {إن تتظاهرا} بتاءين على الأصل، وقرأ نافع بخلاف عنه وعاصم وطلحة وأبو رجاء والحسن: {تظهرا} بتخفيف الظاء على حذف التاء الواحدة، وروي عن ابن عمر أنه قرأ: {تظّهّرا} بشد الظاء والهاء دون ألف، والمولى: الناصر المعين، وقوله: {وجبريل وصالح المؤمنين} يحتمل أن يكون عطفا على اسم الله تعالى في قوله: {هو}، فيكون {جبريل وصالح المؤمنين} في الولاية، ويحتمل أن يكون {جبريل} رفعا بالابتداء، وما بعده عطف عليه، و{ظهير} الخبر فيكون حينئذ من الظهراء لا في الولاية ويختص بأنه مولى الله تعالى، واختلف الناس في {صالح المؤمنين}، فقال الطبري وغيره من العلماء: ذلك على العموم، ويدخل في ذلك كل صالح، وقال الضحاك وابن جبير وعكرمة: المراد أبو بكر وعمر. ورواه ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال مجاهد نحوه، وقال أيضا: وعلي، وروى علي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {صالح المؤمنين}، علي بن أبي طالب ذكره الثعلبي. وقال قتادة والعلاء بن زياد وغيره: هم الأنبياء، وإنما يترتب ذلك بأن تكون مظاهرتهم أنهم قدوة وأسوة فهم عون بهذا، وقوله تعالى: {وصالح} يحتمل أن يكون اسم جنس مفردا، ويحتمل أن يريد (وصالحو) فحذفت الواو في خط المصحف، كما حذفوها في قوله: {سندع الزبانية} [العلق: 18] وغير ذلك. ويروى عن أنس بن مالك أن عمر بن الخطاب قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، لا تكترث بأمر نسائك والله معك وجبريل معك ولو بكر معك، وأنا معك.فنزلت الآية موافقة نحو أمر قول عمر، قال المهدوي: وهذه الآية نزلت على لسان عمر، وكذا روي أن عمر بن الخطاب قال لزوجات النبي صلى الله عليه وسلم: {عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن}. فنزلت الآية على نحو قوله، وقال عمر رضي الله عنه: قالت لي أم سلمة: يا ابن الخطاب، أدخلت نفسك في كل شيء حتى دخلت بين رسول الله وبين نسائه، فأخذتني أخذا كسرتني به، وقالت لي زينب بنت جحش: يا عمر، أما يقدر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعظ نساءه حتى تعظهن أنت، وقرأ الجمهور: {طلقكن} بفتح القاف وإظاهره، وقرأ أبو عمرو في رواية ابن عباس عنه: {طلقكنّ} بشد الكاف وإدغام القاف فيها، وقال أبو علي: وإدغام القاف في الكاف حسن، وقرأ ابن كثير وابن عامر والكوفيون والحسن وأبو رجاء وابن محيصن: {أن يبْدِله} بسكون الباء وتخفيف الدال، وقرأ نافع والأعرج وأبو جعفر: {أن يبدِّله} بفتح الباء وشد الدال، وهذه لغة القرآن في هذا الفعل، وكرر الله تعالى الصفات مبالغة، وإن كان بعضها يتضمن بعضا، فالإسلام إشارة إلى التصديق، والعمل والإيمان: تخصيص للإخلاص وتنبيه على شرف موقعه، {وقانتات} معناه: مطيعات، والسائحات قيل معناه: صائمات، قاله أبو هريرة وابن عباس وقتادة والضحاك. وذكر الزجاج أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله، وقيل معناه هاجرات قاله زيد بن أسلم، وقال ابن زيد: ليس في الإسلام سياحة إلا الهجرة، وقيل: معناه ذاهبات في طاعة الله، وشبه الصائم بالسائح من حيث ينهمل السائح ولا ينظر في زاد ولا مطعم، وكذلك الصائم يمسك عن ذلك فيستوي هو والسائح في الامتناع وشظف العيش لفقد الطعام، وقوله تعالى: {ثيبات وأبكارا} تقسيم لكل واحدة من الصفات المتقدمة، وليست هذه الواو مما يمكن أن يقال فيها: واو الثمانية لأنها هنا ضرورية، ولو سقطت لاختل هذا المعنى. اهـ. .قال أبو السعود في الآيات السابقة: {يا أيها النبي لِم تُحرّمُ ما أحلّ الله لك}رُوِي أن النبيّ عليهِ الصلاةُ والسلامُ خلا بمارية في يوم عائشة وعلمتْ بذلك حفصةُ فقال لها «اكتُمِي عليّ فقدْ حرمتُ مارية على نفسِي وأُبشركِ أن أبا بكرٍ وعمر يملكانِ بعدِي أمر أُمتي» فأخبرتْ بهِ عائشة وكانتا متصادقتين، وقيل خلا بها في يومِ حفصة فأرضاها بذلك واستكتمها فلم تكتُمْ فطلّقها واعتزل نساءهُ فنزل جبريلُ عليه السلام فقال راجعْها فإنّها صوّامةٌ قوامةٌ وإنها لمنْ نسائِك في الجنّةِ ورُوِي أنّه عليهِ الصلاةُ والسلامُ شرب عسلا في بيتِ زينب بنت جحشٍ فتواطأتْ عائشةُ وحفصةُ فقالتا نشمُّ منك ريح المغافيرِ وكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يكرهُ التفل فحرّم العسل فنزلتْ فمعناهُ لم تحرمُ ما أحلّ الله لك منْ ملكِ اليمينِ أو من العسلِ {تبْتغِى مرْضاتِ أزواجك} إما تفسيرٌ لتحرِّمُ أو حالٌ من فاعلِه أو استئنافٌ ببيانِ ما دعاهُ إليهِ مُؤْذِنٌ بعدمِ صلاحيتِهِ لذلك {والله غفُورٌ} مبالغٌ في الغفرانِ قد غفر لك هذهِ الزلة {رّحِيمٌ} قد رحمك ولم يؤاخِذْك بهِ وإنما عاتبك محاماة على عصمتِك {قدْ فرض الله لكُمْ تحِلّة أيمانكم} أي شرع لكُم تحليلها وهو حلُّ ما عقدهُ بالكفارةِ أو بالاستثناءِ متصلا حتّى لا يحنث والأولُ هو المرادُ منها {والله مولاكم} سيدكُم ومتولِّي أُمورِكُم {وهُو العليم} بما يُصلحكُم فيشرعُه لكُم {الحكيم} المتقنُ في أفعالِهِ وأحكامِهِ فلا يأمرُكُم ولا ينهاكُمْ إلا حسبما تقتضيهِ الحكمةُ {وإِذ أسرّ النبي إلى بعْضِ أزواجه} وهي حفصةُ {حديثا} أي حديث تحريمِ مارية أو العسلِ أو أمرِ الخلافةِ {فلمّا نبّأتْ بِهِ} أي أخبرتْ حفصةُ عائشة بالحديث وأفشته إليها وقرئ {أنبأتْ بهِ} {وأظْهرهُ الله عليْهِ} أي أطلع الله تعالى النبيّ عليهِ الصلاةُ والسلامُ على إفشاءِ حفصة {عرّف} أي النبيُّ عليهِ الصلاةُ والسلامُ حفصة {بعْضهُ} بعض الحديث الذي أفشتْهُ. قيل هو حديث الإمامةِ رُوِي أنّه عليهِ الصلاةُ والسلامُ قال «لها ألم أقل لكِ اكتمِي عليّ» قالت: والذي بعثك بالحقِّ ما ملكتُ نفسي فرحا بالكرامةِ التي خصّ الله تعالى بها أباها {وأعْرض عن بعْضٍ} أي عن تعريفِ بعضٍ تكرما، قيل هو حديث مارية {فلمّا نبّأها بِهِ} أي أخبر النبيُّ عليهِ الصلاةُ والسلامُ حفصة بما عرفهُ من الحديث {قالتْ منْ أنبأك هذا} أي إفشاءها للحديث {قال نبّأنِى العليم الخبير} الذي لا تخفى عليهِ خافيةٌ.{إِن تتُوبا إِلى الله}خطابٌ لحفصة وعائشة على الالتفاتِ للمبالغةِ في العتابِ {فقدْ صغتْ قُلُوبُكُما} الفاءُ للتعليلِ كما في قولك اعبُدْ ربّك فالعبادةُ حقٌّ أي فقدْ وُجد منكُما ما يوجبُ التوبة من ميلِ قلوبِكما عمّا يجبُ عليكُما من مُخالصةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وحبِّ ما يحبُه وكراهةِ ما يكرهُهُ وقرئ {فقدْ زاغت} {وإِن تظاهرا عليْهِ} بإسقاطِ إحْدى التاءينِ. وقرئ على الأصلِ، وبتشديدِ الظّاءِ، و{تظهرا} أي تتعاونا عليهِ بما يسوؤه من الإفراطِ في الغيرةِ وإفشاءِ سرِّه {فإِنّ الله هُو مولاه وجِبْرِيلُ وصالح الْمُؤْمِنِين} أي فلنْ يعدم من يظاهرُهُ فإنّ الله هُو ناصرُهُ وجيريلُ رئيسُ الكُروبيين قرينُه ومن صلح من المؤمنين أتباعُه وأعوانُه قال ابنُ عباسٍ رضي الله تعالى عنهُما: أراد بصالحِ المؤمنين أبا بكرٍ وعمر رضي الله عنهُما وقد رُوي ذلك مرفوعا إلى النبيِّ عليهِ الصلاةُ والسلامُ وبهِ قال عكرمةُ ومقاتلٌ وهو اللائقُ بتوسيطِه بين جبريل والملائكةِ عليهِم السلامُ فإنّه جمعٌ بين الظهيرِ المعنويِّ والظهيرِ الصُّوريِّ، كيف لا وإنّ جبريل ظهيرٌ لهُ عليهما السلامُ يؤيدهُ بالتأييداتِ الإلهيةِ وهما وزيراهُ وظهيراهُ في تدبيرِ أمورِ الرسالةِ وتمشيةِ أحكامِها الظاهرةِ ولأنّ بيان مظاهرتِهِما لهُ عليهِ الصلاةُ والسلامُ أشدُّ تأثيرا في قلوبِ بنتيهما وتوهينا لأمرِهِما فكان حقيقا بالتقديمِ بخلافِ ما إذا أُريد بهِ جنسُ الصالحين كما هو المشهورُ {والملائكة} مع تكاثرِ عددِهِم وامتلاءِ السمواتِ من جموعِهِم {بعْد ذلِك} قيل أي بعد نُصرةِ الله عزّ وجلّ وناموسِهِ الأعظمِ وصالحِ المؤمنين {ظهِيرٍ} أي فوجٌ مظاهرٌ لهُ كأنّهم يدٌ واحدةٌ على منْ يُعاديهِ فماذا يفيدُ تظاهرُ امرأتينِ على من هؤلاءِ ظُهراؤُه وما ينبئُ عنه قوله تعالى بعد ذلك من فضلِ نُصرتِهِم على نُصرةِ غيرِهِم مِنْ حيثُ إنّ نصرة الكلِّ نصرةِ الله تعالى، وإنّ نصرتهُ تعالى بهم وبمظاهرتِهِم أفضلُ من سائرِ وجوهِ نُصرتِهِ. هذا ما قالوه ولعلّ الأنسب أنْ يجعل ذلك إشارة إلى مظاهرةِ صالحِ المؤمنين خاصّة، ويكون بيانُ بعديةِ مظاهرةِ الملائكةِ تداركا لما يُوهمه الترتيبُ الذكريُّ من أفضليةِ المقدمِ فكأنه قيل بعد ذكرِ مظاهرةِ صالحِ المؤمنين: وسائرُ الملائكةِ بعد ذلك ظهيرٌ له عليهِ الصلاةُ والسلامُ إيذانا بعلوِّ رتبةِ مظاهرتِهِم وبُعدِ منزلتِها وخبرا لفصلِها عن مظاهرةِ جبريل عليه السلام.{عسى ربُّهُ إِن طلّقكُنّ أن يُبْدِلهُ} أي يعطيهُ عليه السلام بدلكُنّ {أزواجا خيْرا مّنكُنّ} على التغليبِ، أو تعميمِ الخطابِ، وليس فيهِ ما يدلُّ على أنه عليهِ الصلاةُ والسلامُ لم يُطلقْ حفصة وإنّ في النساءُ خيرا منهنّ فإنّ تعليق طلاقِ الكلِّ لا يُنافي تطليق واحدةٍ وما عُلِّق لما لم يقعْ لا يجبُ وقوعُه وقرئ {أنْ يبدِّله} بالتشديد {مسلمات مؤمنات} مقرات مخلصاتٍ أو منقاداتٍ مصدقاتٍ {قانتات} مصلياتٍ أو مواظباتٍ على الطاعةِ {تائبات} من الذنوبِ {عابدات} متعبداتٍ أو متذللاتٍ لأمرِ الرسولِ عليهِ الصلاةُ والسلامُ {سائحات} صائماتٍ سمي الصائمُ سائحا لأنه يسيحُ في النهارِ بلا زادٍ أو مهاجراتٍ وقرئ {سيحاتٍ} {ثيبات وأبْكارا} وُسِّط بينهُما العاطف لتنافيهما. اهـ.
|